فلسطين العاشقة- قصة مقاومة، محاماة، وذاكرة أمة أسيرة.

المؤلف: د. سليمان صالح11.19.2025
فلسطين العاشقة- قصة مقاومة، محاماة، وذاكرة أمة أسيرة.

مرة أخرى، نتناول قصة الأسير الفلسطيني المهندس عبد الله البرغوثي، الذي يحمل أثقل حكم بالمؤبد في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي، حيث حُكم عليه بـ 67 مؤبدًا و5200 عامًا، وقد أمضى حتى الآن العقدين الأولين من حكمه في الحبس الانفرادي القاسي.

نسلط الضوء على روايته الجديدة التي أهداها للمحامين، والتي تتناول فلسطين، المحامين، والمقاومة. يبدو أنه يرى أن الانتصار في هذه القضية يكمن في التآزر بين هذه العناصر الثلاثة: "فلسطين"، التي تمثل الشعب، الذاكرة، التراث، والهوية، والمحامين الذين يؤمنون بعدالة القضية ويدافعون عنها بالكلمة والقانون، والمقاومين الذين وهبوا أرواحهم فداءً للوطن.

في مستهلّ روايته "فلسطين العاشقة والمعشوق"، يسطّر البرغوثي إهداءً إلى نخبة من المحامين، ويختتمها بمحامية من وحي خياله، اختارها لتكون بطلة قصته وسماها "فلسطين".

لماذا يولي الأسير الفلسطيني اهتمامًا خاصًا بالمحامين؟

دعونا نتخيل شخصًا كالبرغوثي، يقبع وحيدًا في زنزانته منذ عام 2003، لا يرى في حياته سوى نوعين من الناس: أعداؤه الذين يراقبون أنفاسه خلف باب زنزانته المعتمة، والمحامون الفلسطينيون الأجلاء الذين يمثلون المتنفس الذي يمنحه نسائم فلسطين، وينقلون إليه أخبار أهله، ويوصلون صوت قضيته إلى العالم، وهم الذين يزودونه بما يحتاجه من الكتب والأوراق، ويسعون جاهدين لتخفيف وطأة الحبس.

عندما يقع المقاوم في القيود، يصمت سلاحه، وينقطع صوته إلا ما تنقله وثائق مسربة أو يذيعه محامٍ يؤمن بعدالة قضيته. لقد صرح عبد الله البرغوثي في بداية كتابه بأنه ليس كاتبًا محترفًا، ولكنه مقاوم عشق توجيه الرصاص إلى صدور الأعداء، "وعندما شح الرصاص في بندقيتي، لم أجد بديلًا عن الرصاص في قلمي". هذا القلم والأوراق أيضًا أهداهما له محامٍ مُخلص. ولهؤلاء المحامين يكنّ البرغوثي عظيم الامتنان. بل يمكن اعتبار هذه الرواية دعوة للمحامين الفلسطينيين ليدركوا أهمية دورهم، ويجعلوه رسالة وسلاحًا في معركة الدفاع عن الوطن.

بطلة الرواية، كما أسلفنا، تحمل اسم "فلسطين"، وقد خاضت رحلة بدأت بالضجر من القضية والرغبة في الانفصال عن آلامها، ولكنها وجدت نفسها أسيرة لهذه القضية، ومدينة للمقاومة، بل مدينة للمقاوم الذي أساءت معاملته، ثم اكتشفت أنه نفسه الذي أنقذها من بطش الاحتلال قبل سنوات، ولولاه لما كانت موجودة.

شعرت "فلسطين" بندم عميق لإهانتها الغضنفر، ومنعه من إكمال رسالته التي كانت تنتظرها والدته التي فقدت بصرها حزنًا عليه؛ فقد كان بارًا بوالدته وبفلسطين والقدس والمسجد الأقصى.

"فلسطين".. العاشقة والمعشوق

"فلسطين" المحامية في رواية البرغوثي، فتاة يفوح منها عبق الجمال والرقة، نشأت في كنف أسرة مقدسية ميسورة الحال، وتنعّمت بكل ما تتيحه تلك النشأة من رفاهية ودلال. وعلى الرغم من ذكائها الفطري، أهملت دراستها؛ ولم تحقق المعدل الذي يؤهلها للالتحاق بكلية الطب التي كانت تحلم بها، فاضطرت لدخول كلية الحقوق التي لم تكن ترغب بها، ومع ذلك تفوقت فيها.

انخرطت في العمل كمحامية في مكتب عابدين للمحاماة، على الرغم من كرهها للمحاكم والمجرمين والقضاة، وتذمرها من اسمها "فلسطين"، وعدم إدراكها لسبب تسمية والدها لها بهذا الاسم، ويحدوها اعتقاد جازم بأن قضية فلسطين لن تجد لها حلًا أبدًا.

كما أنها تتحاشى التوجه إلى مناطق السلطة الفلسطينية لحضور جلسات المحاكم هناك؛ حيث ترى أن تلك المحاكم السلطوية المدنية لا تقل فسادًا عن سلطة أوسلو نفسها، فالرشوة والمحسوبية والواسطة متفشية بها كانتشار النار في الهشيم، لذلك آثرت الابتعاد عن تلك المحاكم السلطوية الفاسدة والترافع أمام محاكم الاحتلال الصهيوني الظالمة.

تتوالى الأحداث وتتشابك عندما يطلب منها المحامي عابدين التوجه لزيارة الأسير عبد القدوس، الملقب بالغضنفر، في سجن بئر السبع؛ لأنها كانت المحامية الوحيدة التي سمحت لها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بزيارته ومنحها التصريح اللازم.

خلال اللقاء، طلب الأسير منها أن تملي عليه رسالة إلى والدته، ولكنها بعد كتابة بضعة أسطر، رفضت إكمال الرسالة بأسلوب يحمل في طياته إهانة له؛ لأنها لم تكن تبالي بقضية تحرير فلسطين التي يضحي الأسرى بأرواحهم فداءً لها. لذلك، أرسل عبد القدوس رسالة إلى المحامي عابدين مفادها أنه لا يرغب في رؤية هذه المحامية مرة أخرى.

الذاكرة والندم

تكتشف "فلسطين" لاحقًا حقيقة صدمتها وهزت مشاعرها، فقد علمت من زميلتها ساجدة أن هذا الأسير الغضنفر هو نفسه الذي أنقذها من تحت سنابك خيول جيش الاحتلال عندما كانت طفلة في التاسعة من عمرها، وخرجت مع زميلاتها في المدرسة تهتف لفلسطين؛ فتعرضت للضرب على أنفها بهراوة جندي إسرائيلي، فسال دمها وتلطخ ثوبها، فتدخل عبد القدوس الذي كان في الثامنة عشرة من عمره، وأنقذها وغطاها بسترته الزرقاء التي ما زالت تحتفظ بها حتى الآن. وعلمت أيضًا أن عبد القدوس عاد بعد أن أوصلها إلى سيارة الإسعاف، وهاجم الجندي الذي اعتدى عليها، وأسقطه أرضًا، وولى هاربًا بحصانه حتى ابتعد عن المكان، ولكن قوات الاحتلال تمكنت من القبض عليه، وحكمت عليه بالسجن لمدة عامين بسبب ذلك. لقد كان فارس أحلامها الذي طالما حلمت به.

شعرت "فلسطين" بندم شديد لإهانتها الغضنفر ومنعه من إكمال رسالته التي كانت تنتظرها والدته التي فقدت بصرها حزنًا عليه، فقد كان ابنًا بارًا بوالدته وبفلسطين والقدس والمسجد الأقصى.

في حوار مع نفسها، أخذت تلوم ذاتها؛ لأنها حرمت الأسير من إرسال رسالة يطمئن بها والدته ووالده، ويطمئن بها فلسطين وأبناءها الذين أحبوه وقدروا جهاده ضد أعداء الحرية والتحرر.

في حديثها مع نفسها، قالت فلسطين: إن عبد القدوس أحب القدس وضحى بحريته من أجلها؛ ما أشمخ رأسه وأعظم قامته بين أولئك السجانين الأقزام. وما أعناده كفلسطيني ضحى بعمره من أجل قضية آمن بها وعمل لأجلها طويلاً.

لذلك، اتخذت فلسطين قرارًا بالعودة إلى جذورها؛ إلى فلسطين الطفلة التي كانت تتظاهر وتشارك في الفعاليات الجماهيرية. فلسطين الطفلة التي أحبت أميرًا شجاعًا، وما زالت تحبه، وما زال هو كما كان شجاعًا مقدامًا.

انتاب فلسطين شعور جارف بالحب تجاه الغضنفر عبد القدوس؛ فهو أميرها الذي كانت تحلم به، وأدركت أن حياتها لم تكن ذات معنى بدونه.

هذه الرواية، كما ذكرنا سابقًا، هي تكريم لكل محامٍ فلسطيني يؤمن بقضية المقاومة وقضية بلاده. هؤلاء المحامون هم جنود في معركة لا تكتمل فصولها بدونهم، وهم شركاء حقيقيون لكل مقاوم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة